عندما ينهار العالم: كيف يُعيد الأخصائيون الاجتماعيون كتابة معنى الصمود تحت الحرب

 بين الأنقاض والتحدي: تحديات الخدمة الاجتماعية في زمن الأزمات وقصة الصمود غير العادي للأخصائيين الفلسطينيين

المقدمة

أيمن غانم - أخصائيون اجتماعيون في فلسطين يقدمون الدعم النفسي للأفراد المتأثرين بالحروب.
في عالم تتسارع فيه وتيرة الأزمات – من حروب وكوارث صحية واقتصادية – تظهر الخدمة

الاجتماعية كشريان حياة للمجتمعات الهشة. ومع ذلك، يواجه العاملون في هذا المجال تحديات غير مسبوقة تتفاقم بفعل تعقيدات الأزمات الحديثة، خاصة في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة مثل غزة. من خلال رصد الإحصائيات وتحليل السياقات، نستكشف في هذا المقال أبرز التحديات العالمية، مع إلقاء الضوء بشكل خاص على المعاناة الاستثنائية للأخصائيين الاجتماعيين الفلسطينيين وسط الحرب والتهجير.


1. تزايد الضغوط النفسية: العبء المزدوج

تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن واحدًا من كل 5 أفراد في مناطق النزاعات يعاني من اضطرابات نفسية، مع ارتفاع النسبة إلى 35% في بعض المناطق كغزة. فخلال الحرب الأخيرة (2023-2024)، تعرض المجتمع الفلسطيني لصدمات جماعية مع تدمير 70% من المنازل وارتفاع عدد الضحايا إلى 40,000 بين قتيل وجريح. 

التأثير على الأخصائيين:

- أخصائيون تحت الأنقاض: يعمل الأخصائيون الفلسطينيون في ظروف كارثية، حيث يُجبرون على تقديم الدعم النفسي في ملاجئ مكتظة أو بين ركام المباني، دون كهرباء أو مياه نظيفة. 

- الانهزام العاطفي: وفقًا لتقرير صادر عن "الهلال الأحمر الفلسطيني"، فإن 65% من الأخصائيين في غزة يعانون من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، بينما 50% منهم فقدوا أحد أفراد أسرتهم خلال الحرب. 

2. نقص الموارد: عندما يصبح الدعم ضحية للحرب

في غزة، تحول الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 17 عامًا دون إدخال المواد الأساسية مثل الوقود وقطع غيار المعدات الطبية. وفقًا لليونيسف، تعطل 80% من المراكز الصحية والاجتماعية في القطاع، بينما يعتمد 75% من السكان على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. 

التأثير العالمي:

- على الصعيد الدولي، خفضت الحكومات تمويل البرامج الاجتماعية بنسبة 30% بعد جائحة كوفيد-19 (تقرير البنك الدولي، 2022). 

- في الضفة الغربية، تسبب نقص التمويل في تعليق 40% من برامج دعم الناجين من العنف الأسري (منظمة أطباء العالم، 2023). 

3. فجوة المهارات: بين النظرية وواقع الميدان

كشف الاتحاد الدولي للأخصائيين الاجتماعيين (IFSW) أن 60% من العاملين في مناطق النزاعات يفتقرون للتدريب الكافي على إدارة الكوارث. في غزة، تُضاف إلى هذه الفجوة تحديات مثل انقطاع الكهرباء الدائم، مما يحرم الأخصائيين من الوصول إلى الدورات التدريبية عبر الإنترنت. 

مثال حي:

خلال حرب 2023، اضطر الأخصائيون إلى تطوير أساليب بدائية لتقديم الدعم النفسي، مثل استخدام الرسم على جدران المباني المدمرة كوسيلة لعلاج الصدمات عند الأطفال. 

4. التعقيدات اللوجستية: الحصار كعقبة وجودية

في غزة، يحظر الاحتلال الإسرائيلي إدخال مواد البناء منذ عام 2007، مما يجعل إعادة تأهيل المراكز الاجتماعية مهمة مستحيلة. وفقًا لتقرير الأمم المتحدة (2024)، يحتاج القطاع إلى 15 عامًا لإعادة بناء ما دمرته الحرب الأخيرة فقط. 

مقارنة عالمية:

- في أوكرانيا، سمحت الممرات الإنسانية بوصول المساعدات إلى 60% من المناطق المتضررة خلال عام 2023، بينما في غزة، لم يتمكن سوى 20% من المساعدات من الوصول بسبب القيود العسكرية (منظمة أوكسفام). 

 5. الوصمة الاجتماعية: ثقافة الصمت في مواجهة الألم

في المجتمعات المحافظة، يُنظر إلى طلب الدعم النفسي أحيانًا كـ"عيب". دراسة أجرتها جامعة بيرزيت (2023) أظهرت أن 40% من النساء في غزة يرفضن الإبلاغ عن العنف الأسري خوفًا من "الفضيحة". 

التأثير على الممارسين:

يواجه الأخصائيون صعوبة في كسر حاجز الصمت، خاصة في مجتمع يعاني من تداعي المنظومة الأخلاقية تحت وطأة الحرب، حيث تتفشى ظواهر مثل عمالة الأطفال (وصلت إلى 34% وفقًا اليونيسف). 

6. الاحتراق الوظيفي: عندما ينفد الأمل

يعاني الأخصائيون الفلسطينيون من مستويات غير مسبوقة من الإرهاق: 

- 70% منهم يعملون أكثر من 12 ساعة يوميًا دون أيام راحة. 

- 55% أفادوا بأنهم يفكرون في ترك المهنة بسبب الضغوط (استطلاع اتحاد الجمعيات الخيرية في غزة، 2024). 

مقارنة عالمية:

في أوروبا، تبلغ نسبة الاحتراق الوظيفي بين الأخصائيين الاجتماعيين 25% (منظمة الصحة العالمية، 2023). 

7. استراتيجيات المواجهة: من البقاء إلى البناء

لتحويل التحديات إلى فرص، لا بد من مبادرات مبتكرة: 

أ. على المستوى الفلسطيني:

- مشاريع التضامن المحلي: مثل مبادرة "يدٌ تبني أخرى" في غزة، حيث يجمع الأخصائيون الناجين من الحرب لبناء مساكن طينية من مواد متوفرة. 

- التعليم البديل: استخدام "المدارس تحت الأشجار" لتقديم جلسات الدعم النفسي عبر أنشطة مسرحية وفنية. 

ب. على المستوى الدولي:

- حملات الضغط السياسي: مطالبة المجتمع الدولي بفرض عقوبات على الدول التي تعرقل وصول المساعدات الإنسانية. 

- منصات التمويل الجماعي: كمنصة "همة" التي جمعت 5 ملايين دولار عام 2023 لدعم مراكز الإرشاد النفسي في غزة. 

ج. التكنولوجيا كحليف:

- الاستشارات الافتراضية: استخدام تطبيقات مثل "نفسيتي" لتقديم الدغم عن بُعد أثناء انقطاع الإنترنت عبر رسائل SMS. 

- الذكاء الاصطناعي: تحليل بيانات الأزمات للتنبؤ باحتياجات المناطق الأكثر ضعفًا، كما فعلت منظمة "أنقذوا الأطفال" في مخيمات النزوح السوري. 

الخاتمة: الصمود كفعل مقاومة

رغم كل ما تواجهه الخدمة الاجتماعية من تحديات – خاصة في غزة – فإن قصص الصمود تثبت أن الأمل ليس مجرد كلمة. الأخصائي الاجتماعي الفلسطيني، الذي يعمل تحت القصف، ويُدرس أطفالًا تحت الأنقاض، ويبني شبكات تضامن من لا شيء، هو تجسيد حي لفكرة أن "العمل الاجتماعي ليس مهنة، بل هو فعل مقاومة". كما قال المفكر إدوارد سعيد: «الذاكرة ليست مجرد سجل للماضي، بل أداة لتغيير المستقبل». 

الكاتب: أيمن غانم

 


أحدث أقدم

نموذج الاتصال